الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **
في هذه السنة في شهر رمضان سار الكرج من بلادهم إلى بلاد أران وقصدوا مدينة بيلقان وكان التتر قد خربوها ونهبوها كما ذكرناه قبل فلما سرا التتر إلى بلاد قفجاق عاد من سلم من أهلها إليها وعمروا ما أمكنهم عمارته من سورها. فبينما هم كذلك إذ أتاهم الكرج ودخلوا البلد وملكوه. وكان المسلمون في تلك البلاد ألفوا من الكرج أنهم إذا ظفروا ببلد صانعوه بشيء من المال فيعودون عنهم فكانوا أحسن الأعداء مقدرة فلما كانت هذه الدفعة ظن المسلمون أنهم يفعلون مثل ما تقدم فلم يبالغوا في الامتناع منهم ولا هربوا من بين أيديهم فلما ملك الكرج المدينة وضعوا السيف في أهلها وفعلوا من القتل والنهب أكثر مما فعل بهم التتر. هذا جميعه يجري وصاحب بلاد أذربيجان أوزبك بن البهلوان بمدينة تبريز ولا يتحرك في صلاح ولا يتجه لخير بل قد قنع بالأكل وإدمان الشرب والفساد فقبحه الله ويسر للمسلمين من يقوم بنصرهم وحفظ بلادهم بمحمد وآله.
في هذه السنة ملك بدر الدين صاحب الموصل قلعة شوش من أعمال الحميدية وبينها وبين الموصل اثنا عشر فرسخًا. وسبب ذلك أنها كانت هي وقلعة العقر متجاورتين لعماد الدين زنكي ابن أرسلان شاه وكان بينهما من الخلف ما تقدم ذكره. فلما كان هذه السنة سار زنكي إلى أذربيجان ليخدم صاحبها أوزبك ابن البهلوان فاتصل به وصار معه وأقطعه إقطاعات وأقام عنده فسار بدر الدين إلى قلعة شوش فحاصرها وضيق عليها وهي على راس جبل عال فطال مقامه عليها لحصانتها فعاد إلى الموصل وترك عسكره محاصرًا لها فلما طال الأمر على من بها ولم يروا من يرحله عنهم ولا من ينجدهم سلموها على قاعدة استقرت بينهم من أقطاع وخلع وغير ذلك فتسلمها نوابه في التاريخ ورتبوا أمورها وعادوا إلى الموصل.
في هذه السنة في العشرين من شعبان ظهر كوكب في السماء في الشرق كبير له ذؤابة طويلة غليظة وكان طلوعه وقت السحر فبقي كذلك عشرة أيام ثم إنه ظهر أول الليل في الغرب مما يلي الشمال فكان كل ليلة يتقدم إلى جهة الجنوب نحو عشرة أذرع في رأي العين فلم يزل يقرب من الجنوب حتى صار غربًا محضًا ثم صار غربًا مائلًا إلى الجنوب بعد أن كان غربًا مما يلي الشمال فبقي كذلك إلى آخر شهر رمضان من السنة ثم غاب. وفيها توفي ناصر الدين محمود بن محمد قرا أرسلان صاحب حصن كيفا وآمد وكان ظالمًا قبيح السيرة في ريعته. قيل: إنه كان يتظاهر بمذهب الفلاسفة في أن الأجساد لا تحشر كذبوا لعنهم الله. ولما مات ملك ابنه الملك المسعود.
في هذه السنة سار الملك المسعود أتسز ابن الملك الكامل محمد صاحب مصر إلى مكة وصاحبها حينئذ حسن بن قتادة بن إديس العلوي الحسيني قد ملكها بعد أبيه كما ذكرناه. وكان حسن قد أساء إلى الأشراف والمماليك الذين كانوا لأبيه وقد تفرقوا عنه ولم يبق عنده غير أخواله من غيره فوصل صاحب اليمن إلى مكة ونهبها عسكره إلى العصر. فحدثني بعض المجاورين المتأهلين أنهم نهبوها حتى أخذوا الثياب عن الناس وأفقروهم وأمر صاحب اليمن أن ينبش قبر قتادة ويحرق فنبشوه فظهر التابوت الذي دفنه انبه الحسن والناس ينظرون إليه فلم يروا فيه شيئًا فعلموا حينئذ أن الحسن دفن أباه سرًا وأنه لم يجعل في التابوت شيئًا. وذاق الحسن عاقبة قطيعة الرحم وعجل الله مقابلته وأزال عنه ما قتل أباه وأخاه وعمه لأجله خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.
في هذه السنة في شعبان سار صاحب قلعة سرماري وهي من أعمال أرمينية إلى خلاط لأنه كان في طاعة صاحب خلاط وهو حينئذ شهاب الدين غازي بن العادل أبي بكر بن أيوب فحضر عنده واستخلف ببلده أميرًا من أمرائه فجمع هذا الأمير جمعًا وسار إلى بلاد الكرج فنهب منها عدة قرى وعاد. فسمعت الكرج بذلك فجمع صاحب دوين واسمه شلوة وهو من أكابر أمراء الكرج عسكره وسار إلى سرماري فحضرها أيامًا ونهب بلدها وسوادها ورجع. فسمع صاحب سرماري الخبر فعاد إلى سرماري فوصل إليها في اليوم الذي رحل الكرج عنها فأخذ عسكره وتبعهم فأوقع بساقتهم فقتل منهم وغنم واستنقذ بعض ما أخذوا من غنائم بلاده. ثم إن صاحب دوين جمع عسكره وسار إلى سرماري ليحصرها فوصل الخبر إلى صاحبها بذلك فحصنها وجمع الذخائر وما يحتاج إليه فأتاه من أخبره أن الكرج نزلوا بوادي بني دوين وسرماري وهو وادي ضيق فسار بجميع عسكره جريدة وجد السير ليكبس الكرج فوصل إلى الوادي الذي هم فيه وقت السحر ففرق عسكره فرقتين: فرقة من أعلى الوادي وفرقة من أسفله وحملوا عليهم وهم غافلون ووضعوا السيف فيهم فقتلوا وأسروا فكان في جملة الأسرى شلوة أمير دوين في جماعة كثيرة من مقدميهم ومن سلم من الكرج عاد إلى بلدهم على حال سيئة. ثم إن ملك الكرج أرسل إلى الملك الأشرف موسى بن العادل صاحب ديار الجزيرة وهو الذي أعطى خلاط وأعمالها الأمير شهاب الدين يقول له: كنا نظن أننا صلح والآن فقد عمل صاحب سرماري هذا العمل فإن كنا على الصلح فنريد إطلاق أصحابنا من الأسر وإن كان الصلح قد انفسخ بيننا فتعرفنا حتى ندبر أمرنا. فأرسل الأشرف إلى صاحب سرماري يأمره بإطلاق الأسرى وتجديد الصلح مع الكرج ففعل ذلك واستقرت قاعدة الصلح وأطلق الأسرى.
في هذه السنة في جمادى الآخرة انهزم إيغان طائيسي وهو خال غياث الدين بن خوارزم شاه محمد بن تكش وغياث الدين هذا هو صاحب بلاد الجبل والري وأصبهان وغير ذلك وله أيضًا بلاد كرمان. وكان سبب ذلك أن خاله إيغان طائيسي كان معه وفي خدمته وهو أكبر أمير معه لا يصدر غياث الدين إلا عن رأيه والحكم إليه في جميع المملكة فلما عظم شأنه حدث نفسه بالاستيلاء على الملك وحسن له ذلك غيره وأطمعه فيه قيل: إن الخليفة الناصر لدين الله أقطعه البلاد سرًا وأمره بذلك فقويت نفسه على الخلاف فاستفسد جماعة من العسكر واستمالهم. فلما تم له أمره أظهر الخلاف على غياث الدين وخرج عن طاعة أوزبك وصار في البلاد يفسد ويقطع الطريق وينهب ما أمكنه من القرى وغيرها. وانضاف إليه جمع كثير من أهل العنف والفساد ومعه مملوك آخر اسمه أيبك الشامي وساروا جميعهم إلى غياث الدين ليقاتلوه ويملكوا بلاده ويخرجوه منها فجمع غياث الدين عسكره والتقوا بنواحي. واقتتلوا فانهزم خال غياث الدين ومن معه وقتل من عسكره وأسر كثير وعاد المنهزمون إلى أذربيجان على أقبح حال وأقام غياث الدين في بلاده وثبت قدمه. حادثة غريبة لم يوجد مثلها كان أهل المملكة في الكرج لم يبق منهم غير امرأة وقد انتهى الملك إليها فوليته وقامت بالأمر فيهم وحكمت فطلبوا لها رجلًا يتزوجها ويقوم بالملك نيابة عنها ويكون من أهل بيت مملكة فلم يكن فيهم من يصلح لهذا الأمر. وكان صاحب أرزن الروم هذا الوقت هو مغيث الدين طغرل شاه بن قلج أرسلان بن مسعود قلج أرسلان وبيته مشهور من أكابر ملوك الإسلام وهم من الملوك السلجوقية وله ولد كبير فأرسل إلى الكرج يطلب الملكة لولده ليتزوجها فامتنعوا من إجابته وقالوا: لا نفعل هذا لأننا لا يمكنا أن يملك أمرنا مسلم. فقال لهم: إن ابني يتنصر ويتزوجها فأجابوه إلى ذلك فأمر ابنه فتنصر ودان بالنصرانية وتزوج الملكة وانتقل إليها وأقام عند الكرج حاكمًا في بلادهم واستمر على النصرانية نعوذ بالله من الخذلان ونسأله أن يجعل خير أعمالنا آخرها وخير ثم كانت هذه الملكة الكرجية تهوى مملوكًا لها فكان زوجها يسمع عنها القبائح ولا يمكنه الكلام لعجزه ثم إنه يومًا دخل عليها فرآها نائمة مع مملوكها في فراش فأنكر ذلك وواجهها بالمنع منه فقالت: إن رضيت بهذا وإلا أنت أخبر. فقال: إنني لا أرضى بهذا فنقلته إلى بلد آخر ووكلت به من يمنعه من الحركة وحجرت عليه وأرسلت إلى بلد اللان وأحضرت رجلين كانا قد وصفا بحسن الصورة فتزوجت أحدهما فبقي معها يسيرًا ثم إنها فارقته وأحضرت إنسانًا آخر من كنجة وهو مسلم فطلبت منه أن يتنصر ليتزوجها فلم يفعل فأرادت أن تتزوجه وهو مسلم فقام عليها جماعة من الأمراء ومعهم إيواني وهو مقدم العساكر الكرجية فقالوا لها: قد افتضحنا بين الملوك بما تفعلين ثم تريدين أن يتزوجك مسلم وهذا لا نمكن منه أبدًا والأمر بينهم متردد والرجل الكنجي عندهم لم يجبهم إلى الدخول في النصرانية وهي تهواه.
في هذه السنة كان الجراد في أكثر البلاد وأهلك كثيرًا من الغلات والخضر بالعراق والجزيرة وديار بكر وكثير من الشام وغيرها. وفيها في رمضان توفي عبد الرحمن بن هبة الله بن عساكر الفقيه الشافعي الدمشقي بها وفيها خرج العرب في خلق كثير على حجاج الشام وأرادوا قطع الطريق عليهم وأخذهم وكان الأمير على الحجاج شرف الدين يعقوب بن محمد وهو من أهل الموصل أقام بالشام وتقدم فيه فمنعهم بالرغبة والرهبة ثم صانعهم بمال وثياب وغير ذلك فأعطى الجميع من ماله ولم يأخذ من الحجاج الدرهم الفرد وفعل فعلًا جميلًا. وكان عنده كثير من العلوم ويرجع إلى دين متين.
أول هذه السنة وصل طائفة من التتر من عند ملكهم جنكزخان وهؤلاء غير الطائفة الغربية التي ذكرنا أخبارها قبل وصول هؤلاء الري وكان من سلم من أهلها قد عادوا إليها وعمروها فلم يشعوا بالتتر إلا وقد وصلوا إليها فلم يمتنعوا عنهم فوضعوا في أهلها السيف وقتلوهم كيف شاؤوا ونهبوا البلد وخربوه وساروا إلى ساوة ففعلوا بها كذلك ثم إلى قم وقاشان وكانتا قد سلمتا من التتر أولًا فإنهم لم يقربوهما ولا أصاب أهلهما أذى فأتاهما هؤلاء وملكوهما وقتلوا ثم ساروا في البلاد يخربون ويقتلون وينهبون ثم قصدوا همذان وكان قد اجتمع بها كثير ممن سلم من أهلها فأبادوهم قتلًا وأسرًا ونهبًا وخربوا البلد. وكانوا لما وصلوا إلى الري رأوا بها عسكرًا كثيرًا من الخوارزمية فكبسوهم وقتلوا منهم وانهزم الباقون إلى أذربيجان فنزلوا بأطرافها فلم يشعروا إلا والتتر أيضًا قد كبسوهم ووضوا السيف فيهم فولوا منهزمين فوصل طائفة منهم إلى تبريز وأرسلوا إلى صاحبها أوزبك بن البهلوان يقولون: إن كنتم موافقنا فسلم إلينا من عندك من الخوارزمية وإلا فعرفنا أنك غير موافق لنا ولا في طاعتنا فعمد إلى من عنده من الخوارزمية فقتل بعضهم وأسر بعضهم وحمل الأسرى والرؤوس إلى التتر وأنفذ معها من الأموال والثياب والدواب شيئًا كثيرًا فعادوا عن بلاده نحو خراسان فعلوا هذا وليسوا في كثرة كانوا نحو ثلاثة آلاف فارس وكان الخوارزمية الذين انهزموا منهم نحو ستة آلاف راجل وعسكر أوزبك أكثر من الجميع ومع هذا فلم يحدث نفسه ولا الخوارزمية بالامتناع منهم. نسأل الله أن ييسر للإسلام والمسلمين من يقوم بنصرتهم فقد دفعوا إلى أمر عظيم من قتل النفوس ونهب الأموال واسترقاق الأولاد وسبي الحريم وقتلهن وتخريب البلاد. قد ذكرنا أن غياث الدين بن خوارزم شاه محمد كان بالري وله معها أصفهان وهمذان وما بينهما من البلاد وله أيضًا بلاد كرمان فلما هلك أبوه كما ذكرناه وصل التتر إلى بلاه وامتنع بأصفهان وحصره التتر فيها فلم يقدروا عليها فلما فارق التتر بلاده وساروا إلى بلاد قفجاق عاد ملك البلاد وعمر ما أمكنه منها وأقام بها إلى أواخر سنة عشرين وستمائة وجرى له ما ذكرناه. ففي آخر سنة عشرين وستمائة سار إلى بلا فارس فلم يشعر صاحبها وهو أتابك سعد بن دكلا إلا وقد وصل غياث الدين إلى أطراف بلاده فلم يتمكن من الامتناع فقصد قلعة إصطخر فاحتمى بها وسار غياث الدين إلى مدينة شيراز وهي كرسي مملكة فارس وأكبرها وأعظمها فملكها بغير تعب أو سنة إحدى وعشرين وستمائة وبقي غياث الدين بها واستولى على أكثر البلاد ولم يبق بيد سعد إلا الحصون المنيعة. فلما طال الأمر على سعد صالح غياث الدين على أن يكون لسعد من البلاد قسم اتفقوا عليه ولغياث الدين الباقي وأقام غياث الدين بشيراز وازداد إقامة وعزمًا على ذلك لما سمع أن التتر قد عادوا إلى الري والبلاد التي له وخربوها.
كان الملك الأشرف موسى بن العادل أبي بكر بن أيوب قد أقطع أخاه شهاب الدين غازي مدينة خلاط وجميع أعمال أرمينية وأضاف إليها ميافارقين وخاني وجبل جور ولم يقنع بذلك حتى جعله ولي عهده في البلاد التي له جميعها وحلف له جميع النواب والعساكر في البلاد. فلما سلم إليه أرمينية سار إليها كما ذكرناه وأقام بها إلى آخر سنة عشرين وستمائة فأظهر مغاضبة أخيه الملك الأشرف والتجني عليه والعصيان والخروج عن طاعته فراسله الأشرف يستميله ويعاتبه على ما فعل فلم يرعوا ولا ترك ما هو عليه بل أصر على ذلك واتفق هو وأخوه المعظم عيسى صاحب دمشق ومظفر الدين بن زيد الدين صاحب إربل على الخلاف للأشرف والاجتماع على محاربته وأظهروا ذلك. وعلم الأشرف فأرسل إلى أخيه الكامل بمصر يعرفه ذلك وكانا متفقين وطلب منه نجدة فجهز العساكر وأرسل إلى أخيه صاحب دمشق يقول له: إن تحركت من بلدك سرت إليه وأخذته وكان قد سار نحو ديار الجزيرة للميعاد الذي بينهم فلما وصلت إليه رسالة أخيه وأما صاحب إربل فإنه جمع العساكر وسار إلى الموصل فكان منه ما نذكره إن شاء الله. وأما الأشرف فإنه لما تيقن عصيان أخيه جمع العساكر من الشام والجزيرة والموصل وسار إلى خلاط فلما قرب منها خافه أخوه غازي ولم يكن له قوة على أن يلقاه محاربًا ففرق عسكره في البلاد ليحصنها وانتظر أخوه صاحب دمشق أن يسير صاحب إربل إلى ما يجاوره من الموصل وسنجار وأن يسير أخوه إلى بلاد الأشراف عند الفرات: الرقة وحران وغيرهما فيضطر الأشرف حينئذ إلى العود عن خلاط. فسار الأشرف إليه وقصد خلاط وكان أهلها يريدونه ويختارون دولته لحسن سيرته كانت فيهم وسوء سيرة غازي فلما حصرها سلمها أهلها إليه يوم الاثنين ثاني عشر جمادى الآخرة وبقي غازي في القلعة ممتنعًا فلما جنه الليل نزل إلى أخيه معتذرًا ومتنصلًا فعاتبه الأشرف وأبقى عليه ولم يعاقبه على فعله لكن أخذ البلاد منه وأبقى عله ميافارقين.
قد ذكرنا اتفاق مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي صاحب إربل وشهاب الدين غازي صاحب خلاط المعظم عيسى صاحب دمشق على قصد بلاد الملك الأشرف فأما صاحب دمشق فإنه سار عنها مراحل يسيرة وعاد إليها لأن أخاه صاحب مصر أرسل إليه يتهدده إن سار عن دمشق أنه يقصدها ويحصرها فعاد. وأما غازي فإنه استحصر في خلاط وأخذت منه كما ذكرناه. وأما صاحب إربل فإنه جمع عسكره وسار إلى بلد الموصل وحصرها ونازلها يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الآخرة ظنًا منه أن الملك الأشرف إذا سمع بنزوله عليها رحل عن خلاط ويخرج غازي في طلبه فتتخبط أحواله وتقوى نفس صاحب دمشق على المجيء إليهم فلا نازل الموصل كان صاحبها بدر الدين لؤلؤ قد أحكم أمورها من استخدام الجند على الأسوار وإظهار آلة الحصار وإخراج الذخائر. وإنما قوي طمع صاحب إربل على حصر الموصل لأن أكثر عسكرها كان قد سار إلى الملك الأشرف إلى خلاط وقد قل العسكر فيها وكان الغلاء شديدًا في البلاد جميعها والسعر في الموصل كل ثلاثة مكاكيك بدينار فلهذا السبب أقدم على حصرها فلما نزل عليها أقام عشرة أيام ثم رحل عنها يوم الجمعة لتسع بقين من جمادى الآخرة. وكان سبب رحيله أنه رأى امتناع البلد عليه وكثرة من فيه وعندهم من الذخائر ما يكفيهم الزمان الكثير ووصل إليه خبر الملك الأشرف أنه ملك خلاط فانفسخ عليه كل ما كان يؤمله من صاحبها ومن دمشق وبقي وحده متلبسًا بالأمر فلما وصلت الأخبار إليه بذلك سقط في يده ورأى أنه قد أخطأ الصواب فرحل عائدًا إلى بلده وأقام على الزاب ومدة مقامه على الموصل لم يقاتلها إنما كان في بعض الأوقات يجيء بعض اليزك الذين له يقاتلون البلد فيخرج إليهم بعض الفرسان وبعض الرجال فيجري بينهم قتال ليس بالكثير ثم يتفرقون وترجع كل طائفة إلى صاحبها.
في هذه السنة أول آب جاء ببغداد مطر برعد وبرق وجرت المياه بباب البصرة والحربية وكذلك بالمحول بحيث إن الناس كانوا يخوضون في الماء والوحل بالمحول. وفيها سار صاحب المخزن إلى بعقوبا في ذي القعدة فعسف أهلها فنقل إليه عن إنسان منها أنه يسبه فأحضره وأمر بمعاقبته وقال له: لم تسبني فقال له: أنتم تسبون أبا بكر وعمر لأجل أخذهما فدك وهي عشر نخلات لفاطمة عليها السلام وأنتم تأخذون مني ألف نخلة ولا أتكلم فعفا عنه. وفيها وقعت فتنة بواسط بين السنة والشيعة على جاري عادتهم. وفيها قلت الأمطار في البلاد فمل يجيء منها شيء إلى سباط ثم إنها كانت تجيء في الأوقات المتفرقة مجيئًا قريبًا لا يحصل منه الري للزرع فجاءت الغلات قليلة ثم خرج عليها الجراد ولم يكن في الأرض من النبات ما يشتغل به عنها فأكلها إلا القليل وكان كثيرًا خارجًا عن الحد فغلت الأسعار في العراق والموصل وسائر ديار الجزيرة وديار بكر وغيرها وقلت الأقوات إلا أن أكثر الغلاء كان بالموصل وديار الجزيرة.
في هذه السنة سارت الكرج في جموعها إلى مدينة كنجة من بلاد أران قصدًا لحصرها واعتدوا لها بما أمكنهم من القوة لأن أهل كنجة كثير عددهم قوية شوكتهم وعندهم شجاعة كثيرة من طول ممارستهم للحرب مع الكرج فلما وصلوا إليها ونازلوها قاتلوا أهلها عدة أيام من وراء السور لم يظهر من أهلها أحد ثم في بعض الأيام خرج أهل كنجة ومن عندهم من العسكر من البلد وقاتلوا الكرج بظاهر البلد أشد قتال وأعظمه فلما رأى الكرج ذلك علموا أنهم لا طاقة لهم بالبلد فرحلوا بعد أن اثخن أهل كنجة فيهم. وكانت عساكر الخليفة مع مملوكه جمال الدين قشتمر بالقرب منه فلما رحل جلال الدين لم يقدر العسكر على منعه فسار إلى أن وصل إلى بعقوبا وهي قرية مشهورة بطريق خراسان بينها وبين بغداد نحو سبعة فراسخ فلما وصل الخبر إلى بغداد تجهزوا للحصار وأصلحوا السلاح من الجروخ والقسي والنشاب والنفط وغير ذلك وعاد عسكر الخليفة إلى بغداد. وأما عسكر جلال الدين فنهب البلاد وأهلكها وكان قد وصل هو وعسكره إلى خوزستان في ضر شديد وجهد جهيد وقلة من الدواب والذي معهم فهو من الضعف فهو من الضعف إلى حد لا ينتفع به فغنموا من البلاد جميعها واستغنوا وأكثروا من أخذ الخيل والبغال فإنهم كانوا في غاية الحاجة إليها. وسار من بعقوبا إلى دقوقا فحصرها فصعد أهلها إلى السور وقاتلوه وسبوه وأكثروا من التكبير فعظم ذلك عنده وشق عليه وجد في قتالهم ففتحها عنوة وقهرًا ونهبتها عساكره وقتلوا كثيرًا من أهلها فهرب من سلم منهم من القتل وتفرقوا في البلاد. ولما كان الخوارزميون على دقوقا سارت سرية منهم إلى البت والراذان فهرب أهلها إلى تكريت فتبعهم الخوارزمية فجرى بينهم وبين عسكر تكريت وقعة شديدة فعادوا إلى العسكر. ولقد رأيت بعض أعيان أهل دقوقا وهم بنو يعلى وهم أغنياء فنهبوا وسلم أحدهم ومعه ولدان له وشيء يسير من المال فسير ما سلم معه إلى الشام مع الولدين ليتجر بما ينفعون به وينفقونه على نفوسهم فمات أحد الولدين بدمشق واحتاط الحاكم على ما معهم فلقد رأيت أباهم على حالة شديدة لا يعلمها إلا الله يقول: أخذت الأموال والأملاك وقتل بعض الأهل وفارق من سلم منهم الوطن بهذا القدر الحقير أردنا أن نكف به وجوهنا من السؤال ونصون أنفسنا فقد ذهب الولد والمال. ثم سار إلى دمشق ليأخذ ما سلم مع ابنه الآخر فأخذه وعاد إلى الموصل فلم يبق غير شهر حتى توفي إن الشقي بكل حبل يخنق. وأما جلال الدين فإنه لما فعل بأهل دقوقا ما فعل خافه أهل البوازيج و هي لصاحب الموصل فأرسلوا إليه يطلبون منه إرسال شحنة إليهم يحميهم وبذلوا له شيئًا من المال فأجابهم إلى ذلك وسير إليهم من يحميهم قيل: كان بعض أولاد جنكزخان مل التتر أسره جلال الدين في بعض حروبه مع التتر فأكرمه فحماهم وأقام بمكانه إلى أواخر ربيع الآخر والرسل مترددة بينه وبين مظفر الدين صاحب إربل فاصطلحوا فسار جلال الدين إلى أذربيجان وفي مدة مقام جلال الدين بخوزستان والعراق ثارت العرب في البلاد يقطعون الطريق وينهبون القرى ويخيفون السبيل فنال الخلق منهم أذى شديد وأخذوا في طريق العراق قفلين
في هذه السنة في صفر توفي الملك الأفضل علي بن صلاح الدين يوسف ابن أيوب فجأة بقلعة سميساط وكان عمره نحو سبع وخمسين سنة وقد ذكرنا سنة تسع وثمانين وخمسمائة عند وفاة والده رحمه الله ملكه مدينة دمشق والبيت المقدس وغيرهما من الشام وذكرنا سنة اثنتين وتسعين أخذ الجميع منه ثم ذكرنا سنة خمس وتسعين ملكه ديار مصر وذكرنا سنة ست وتسعين أخذها منه وانتقل إلى سميساط وأقام بها ولم يزل بها إلى الآن فتوفي بها. وكان رحمه الله من محاسن الزمان لم يكن في الملوك مثله كان خيرًا عادلًا فاضلًا حليمًا كريمًا قل أن عاقب على ذنب ولم يمنع طالبًا وكان يكتب خطًا حسنًا وكتابة جيدة وبالجملة فاجتمع فيه من الفضائل والمناقب ما تفرق في كثير من الملوك لا جرم حرم الملك والدنيا وعاداه الدهر ومات بموته كل فعل جليل فرحمه الله ورضي عنه. ورأيت من كتابته أشياء حسنة فما بقي على خاطري منها أنه كتب إلى بعض أصحابه لما أخذت دمشق منه كتابًا من فصوله: وأما أصحابنا بدمشق فلا علم لي بأحد منهم وسبب ذلك أني:وأي ضد سألت حالته سمعت ما لا تحبه أذني فتركت السؤال عنهم وهذا غاية الجودة في الاعتذار عن ترك السؤال والصاحب. ولما مات اختلف أولاده وعمهم قطب الدين موسى ولم يقو أحد منهم على الباقين ليستبد بالأمر. ومات في هذه السنة صاحب أرزن الروم وهو مغيث الدين طغرل بن قلج أرسلان وهو الذي سير ولده إلى الكرج وتنصر وتزوج ملكة الكرج ولما مات ملك بعده ابنه. ومات فيها ملك أرزنكان. وتوفي فيها عز الدين الخضر بن إبراهيم بن أبي بكر بن قرا أرسلان بن داود أبن سقمان صاحب خرت برت وملك بعده ابنه نور الدين أرتق شاه وكان المدبر لدولته ولدولته ودولة والده معين الدين بدر بن عبد الرحمن البغدادي الأصل الموصلي المنشإ.
في هذه السنة ثار على شروان شاه ولده فنزعه من الملك وأخرجه من البلاد وملك بعده. وسبب ذلك أن شروان شاه كان سيء السيرة كثير الفساد والظلم يتعرض لأموال الرعايا وأملاكهم وقيل أيضًا: إنه كان يتعرض للنساء والولدان فاشتدت وطأته على الناس فاتفق بعض العسكر مع ولده وأخرجوا أباه من البلاد وملك الابن وأحسن السيرة فأحبه العساكر والرعية وأرسل الولد إلى أبيه يقول له: إني أردت أن أتركك في بعض القلاع وأجري لك الجرايات الكثيرة ولكل من تحب أن يكون عندك والذين حملني على ما فعلت معك سوء سيرتك وظلمك لأهل البلاد وكراهيتهم لك ولدولتك.فلما رأى الأب ذلك سار إلى الكرج واستنصر بهم وقرر معهم أن يرسلوا معه عسكرًا يعيدونه إلى ملكه ويعطيهم نصف البلاد فسيروا معه عسكرًا كثيرًا فسار حتى قارب مدينة شروان فجمع ولده العسكر وأعلمهم الحال وقال: إن الكرج متى حصرونا ربما ظفروا بنا وحينئذ لا يبقي أبي على أحد منا ويأخذ الكرج نصف البلاد وربما أخذوا الجميع وهذا أمر عظيم والرأي أننا نسير إليهم جريدة ونلقاهم فإن ظفرنا بهم فالحمد لله وإن ظفروا بنا فالحصر بين أيدينا فأجابوه إلى ذلك. فخرج في عسكره وهم قليل نحو ألف فارس ولقوا الكرج وهم في ثلاثة آلاف مقاتل فالتقوا واقتتلوا وصبر أهل شروان فانهزم الكرج فقتل كثير منهم وأسر كثير ومن سلم عاد بأسوإ حال وشروان شاه المخلوع معهم فقال له مقدمو الكرج: إننا لم نلق بسببك خيرًا ولا نؤاخذك بما كن منك فلا تقم ببلادنا ففارقهم وبقي مترددًا لا يأوي إلى أحد واستقر ولده في الملك
|